فصل: كِتَابُ السَّرِقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ:

الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ):
لَمَّا قَدَّمَ الْحُدُودَ الْمُقَدَّرَةَ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ وَهِيَ أَوْكَدُ أَتْبَعَهَا التَّعْزِيرَ الَّذِي هُوَ دُونَهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالدَّلِيلِ وَالتَّعْزِيرُ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ.
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أَمَرَ بِضَرْبِ الزَّوْجَاتِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا.
وَفِي الْكَافِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تَرْفَعْ عَصَاك عَنْ أَهْلِك» وَرُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزَّرَ رَجُلًا قَالَ لِغَيْرِهِ يَا مُخَنَّثُ».
وَفِي الْمُحِيطِ: رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُهُ» وَأَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرٍ إلَّا فِي حَدٍّ» وَسَيَأْتِي.
وَقولهُ «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ» فِي الصِّبْيَانِ، فَهَذَا دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ التَّعْزِيرِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.
وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ عَنْ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ كَيْ لَا تَصِيرَ مَلَكَاتٌ فَيَفْحُشُ وَيَسْتَدْرِجُ إلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ عَنْ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالصَّيْحَةِ وَمِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى اللَّطْمَةِ وَإِلَى الضَّرْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَبْسِ.
وَفِي الشَّافِي: التَّعْزِيرُ عَلَى مَرَاتِبَ: تَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْعَلَوِيَّةُ بِالْإِعْلَامِ وَهُوَ أَنْ يَقول لَهُ الْقَاضِي بَلَغَنِي أَنَّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَنْزَجِرُ بِهِ، وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالدَّهَاقِينُ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ بِالْجَرِّ وَالْحَبْسِ، وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّةِ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِالضَّرْبِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ التَّعْزِيرُ لِلسُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ.
وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ سَمِعْت مِنْ ثِقَةٍ أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ، أَوْ الْوَالِي جَازَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ كَقول أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: يَجُوزُ التَّعْزِيرُ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ.
وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَمَّنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَيَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْ الزِّنَا بِالصِّيَاحِ وَالضَّرْبِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ لَا يَقْتُلُهُ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالْقَتْلِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ قَتْلُهَا أَيْضًا.
وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ تَعْزِيرٌ يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا، وَصَرَّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ.
وَالشَّارِعُ وَلَّى كُلَّ أَحَدٍ ذَلِكَ حَيْثُ قَال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ» الْحَدِيثَ.
بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ تَوْلِيَتُهَا إلَّا لِلْوُلَاةِ، وَبِخِلَافِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ بِالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْحَاكِمُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَا فِيهِ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ وَاجِبًا وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إنِّي لَقِيت امْرَأَةً فَأَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَلَّيْت مَعَنَا؟ قَالَ نَعَمْ، فَتَلَا عَلَيْه: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}» وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِيِّ: «اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ فَلَمْ يُوَافِقْ غَرَضَهُ إنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ».
وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ التَّعْزِيرِ كَمَا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ هَوَى نَفْسِهِ الْمَصْلَحَةَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُزْجَرُ إلَّا بِهِ وَجَبَ لِأَنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَالْحَدِّ، وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِدُونِهِ لَا يَجِبُ وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ الَّذِي ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ نَادِمٌ مُنْزَجِرٌ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ لَهُ لَيْسَ إلَّا لِلِاسْتِعْلَامِ بِمُوجِبِهِ لِيَفْعَلَ مَعَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَالتَّعْزِيرُ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: التَّعْزِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ يَجُوزُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ وَالْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ: يَعْنِي إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ سَبَبُهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ، فَحَقُّ الْعَبْدِ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا ذُكِرَ.
وَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ انْزَجَرَ الْفَاعِلُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمُدَّعٍ شَهِدَ بِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا شَاهِدًا إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ.
فَإِنْ قُلْت: فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا مُرُوءَةٍ وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَعَلَ يُوعَظُ اسْتِحْسَانًا فَلَا يُعَزَّرُ.
فَإِنْ عَادَ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضْرَبُ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي فِيهَا مِنْ إسْقَاطِ التَّعْزِيرِ.
قُلْت: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مَا قُلْت مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مُنَاقَضَةَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ فَقَدْ حَصَلَ تَعْزِيرُهُ بِالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالدَّعْوَى فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي التَّعْزِيرِ.
وَقولهُ وَلَا يُعَزَّرُ: يَعْنِي بِالضَّرْبِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ حِينَئِذٍ بِالضَّرْبِ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ حَقِّ آدَمِيٍّ مِنْ الشَّتْمِ وَهُوَ مُمْكِنٌ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَشْتُمُ النَّاسَ: إذَا كَانَ لَهُ مُرُوءَةٌ وُعِظَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ حُبِسَ.
وَإِنْ كَانَ سَبَّابًا ضُرِبَ وَحُبِسَ: يَعْنِي الَّذِي دُونَ ذَلِكَ، وَالْمُرُوءَةُ عِنْدِي فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ) لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ: الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ، وَهَذَا أَحْسَنُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ) بِالْإِجْمَاعِ إلَّا عَلَى قول دَاوُد فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِهِ.
وَقول ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الذِّمِّيَّةِ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ قَالَ: يُحَدُّ بِهِ، وَإِنَّمَا عُزِّرَ (لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (جِنَايَةُ قَذْفٍ وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ) وَمِثْلُهُ يَا لِصُّ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا زِنْدِيقُ أَوْ يَا مَقْبُوحُ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يَا قَرْطَبَانُ يَا مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ يَا لُوطِيُّ أَوْ قَالَ أَنْتَ تَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ يَا آكِلَ الرِّبَا يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا دَيُّوثُ يَا مُخَنَّثُ يَا خَائِنُ يَا مَأْوَى الزَّوَانِي يَا مَأْوَى اللُّصُوصِ يَا مُنَافِقُ يَا يَهُودِيُّ عُزِّرَ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَذَكَرَهُ النَّاطِفِيُّ وَقَيَّدَهُ بِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ صَالِحٍ، أَمَّا لَوْ قَالَ لِفَاسِقٍ يَا فَاسِقُ أَوْ لِلِّصِّ يَا لِصُّ أَوْ لِلْفَاجِرِ يَا فَاجِرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ ذَلِكَ وَهُوَ قولنَا إنَّهُ آذَاهُ بِمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الشَّيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ لَمْ يُعْلَمْ اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ، أَمَّا مَنْ عُلِمَ فَإِنَّ الشَّيْنَ قَدْ أَلْحَقَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قول الْقَائِلِ.
وَقِيلَ فِي يَا لُوطِيُّ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ عُزِّرَ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ إنْ كَانَ فِي غَضَبٍ، قُلْت: أَوْ هَزْلٍ مِمَّنْ تَعَوَّدَ بِالْهَزْلِ بِالْقَبِيحِ، وَلَوْ قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ مَيْتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ عُزِّرَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى) وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا (لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ) وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا (وَفِي الثَّانِيَةِ) وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي (الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ).
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى شَيْنِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْنٌ أَصْلًا، بَلْ إنَّمَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ كَانَ كَذِبُهُ ظَاهِرًا، وَمِثْلُهُ يَا بَقَرُ يَا ثَوْرُ يَا حَيَّةُ يَا تَيْسُ يَا قِرْدُ يَا ذِئْبُ يَا حَجَّامُ يَا بَغَّاءُ يَا وَلَدَ حَرَامٍ يَا عَيَّارُ يَا نَاكِسُ يَا مَنْكُوسُ يَا سُخْرَةُ يَا ضُحَكَةُ يَا كَشْحَانُ يَا أَبْلَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ بِحَجَّامٍ يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ يَا كَلْبُ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا مُؤَاجِرُ يَا مُوَسْوِسُ لَمْ يُعَزَّرْ.
وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي الْكَشْحَانِ إذْ قِيلَ إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْقَرْطَبَانِ وَالدَّيُّوثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَبِالْقَرْطَبَانِ فِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ الْمُعَرِّصُ وَالْقُوَّادُ، وَعَدَمُ التَّعْزِيرِ فِي الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَاخْتَارَ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِهِ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ فِي عُرْفِنَا.
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي يَا كَلْبُ لَا يُعَزَّرُ.
قَالَ: وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَتِيمَةً ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ قَطْعًا انْتَهَى.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّهُ شَتِيمَةً وَلِهَذَا يُسَمُّونَ بِكَلْبٍ وَذِئْبٍ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ فِي يَا خِنْزِيرُ يَا حِمَارُ يُعَزَّرُ، ثُمَّ قَالَ:
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدِ لَا يُعَزَّرُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْمُصَنِّفُ اسْتَحْسَنَ التَّعْزِيرَ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْأَشْرَافِ فَتَحَصَّلَتْ ثَلَاثَةٌ: الْمَذْهَبُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يُعَزَّرُ مُطْلَقًا، وَمُخْتَارُ الْهِنْدُوَانِيُّ يُعَزَّرُ مُطْلَقًا.
وَالْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْأَشْرَافِ فَيُعَزَّرُ قَائِلُهُ أَوْ لَا فَلَا، وَيُعَزَّرُ فِي مُقَامِرٍ وَفِي قَذِرٍ، قِيلَ وَفِي بَلِيدٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُشْبِهُ يَا أَبْلَهُ وَلَمْ يَعْزِرُوا بِهِ.

متن الهداية:
وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا.
وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قول زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ بِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ) فِي نَقْصِهِ عَنْ الْمَحْدُودِ.
قولهُ: (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ») ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْأَصْبَحِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ بَلَغَ» الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ مُرْسَلًا فَقَالَ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ بَلَغَ» الْحَدِيثَ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِذَا لَزِمَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى صِرَافَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ فَنَحَّاهُ عَنْ حَدِّ الْأَرِقَّاءِ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا حَدٌّ فَلَا يَبْلُغُ إلَيْهِمَا بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ، خُصُوصًا وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ احْتِيَاطٍ فِي الدَّرْءِ (وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ حُدُودِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةِ) هِشَامٍ عَنْهُ (وَهُوَ قول زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قولنَا لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.
قِيلَ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى مَعْقول، وَذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ فِي تَعْزِيرِ رَجُلٍ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ يَعْقِدُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ عَقْدًا بِأَصَابِعِهِ فَعَقَدَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَمْ يَعْقِدْ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ الْخَمْسَةِ فَظَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ، قَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ: يَعْنِي خَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ: وَنُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ قَالَ: قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ، وَالنِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْعَبِيدِ وَأَكْثَرُهُ خَمْسُونَ فَتَحْصُلُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ.
وَمَنَعَ صِحَّةَ اعْتِبَارِ هَذَا الْأَخْذِ وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ بَعْدَ أَنْ أَثَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ قَلَّدَ عَلِيًّا فِيهِ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْقِلُ يُؤَكِّدُهُ، إذْ الْغَرَضُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ يَجِبُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ جَوَابُهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ إنَّهُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِقولنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحُرِّ، وَقَالَ فِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَفِي الْأَحْرَارِ أَرْبَعُونَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُجَانِبًا لِهَوَى النَّفْسِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ لِصَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا، فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَحَبَسَهُ، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَنَفَاهُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ لِلشُّرْبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ.
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الزِّنَا فَوْقَ مَا فُرِضَ بِالزِّنَا، وَحَدِيثُ مَعْنٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذُنُوبًا كَثِيرَةً أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ يَشْتَمِلُ كَثْرَةً مِنْهَا لِتَزْوِيرِهِ وَأَخْذِهِ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَفَتْحِهِ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ مِمَّنْ كَانَتْ نَفْسُهُ عَارِيَّةً عَنْ اسْتِشْرَافِهَا، وَحَدِيثُ النَّجَاشِيِّ ظَاهِرٌ أَنْ لَا احْتِجَاجَ فِيهِ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ ضَرْبَهُ الْعِشْرِينَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْقَائِلَةُ إنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ، وَقَالَ: ضَرَبْنَاك الْعِشْرِينَ بِجُرْأَتِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ، فَأَيْنَ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ قولهِ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَال: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ وَبَعْضُ الثِّقَاتِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ لَا تَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا، وَيُرْوَى ثَلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ: أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَمَّا إنْ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ.
قولهُ: (ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ) وَجْهُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْكَلَامِ لِقول الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ: وَاخْتِيَارُ التَّعْزِيرِ إلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمُقْتَضَى قول الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِنَوْعِ الضَّرْبِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ يُكْمِلُ لَهُ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ أَقَلُّهُ إذْ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَقَلِّ شَيْءٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزَجِرُ بِعِشْرِينَ كَانَتْ الْعِشْرُونَ أَقَلَّ مَا يَجِبُ تَعْزِيرُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْهُ.
فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ وَتَبْقَى فَائِدَةُ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَنْ لَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لَا يَبْلُغُ قَدْرَ ذَلِكَ وَيَضْرِبُهُ الْأَكْثَرَ فَقَطْ.
نَعَمْ يُبَدِّلُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِنَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَبْسُ مَثَلًا.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ) وَاحْتِمَالِ الْمَضْرُوبِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ كُلَّ نَوْعٍ) مِنْ أَسْبَابِ التَّعْزِيرِ (مِنْ بَابِهِ) فَيُقَرِّبُ بِالْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ وَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ.
وَكَذَا السُّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قِيلَ: مَعْنَاهُ يُعَزَّرُ فِي اللَّمْسِ الْحَرَامِ وَالْقُبْلَةِ أَكْثَرَ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ، وَيُعَزَّرُ فِي قولهِ نَحْوَ يَا كَافِرُ وَيَا خَبِيثُ أَقَلَّ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ، وَلَكِنْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ يَبْلُغُ أَقْصَى التَّعْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ أَقْصَاهُ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَا يَنْزَجِرُ بِهَا أَوْ هُوَ فِي شَكٍّ مِنْ انْزِجَارِهِ بِهَا يُضَمُّ إلَيْهِ الْحَبْسُ (لِأَنَّ الْحَبْسَ صَلُحَ تَعْزِيرًا) بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ أَيَّامًا عُقُوبَةً لَهُ فَعَلَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى وَغَيْرِهَا، وَهُوَ قول الْمُصَنِّفِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ (وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ مَا سَلَفَ مِنْ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» (فَجَازَ أَنْ يَضُمَّهُ) إذَا شَكَّ فِي انْزِجَارِهِ بِدُونِهِ.
قولهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ بِمُفْرَدِهِ يَقَعُ تَعْزِيرًا تَامًّا (لَمْ يُشْرَعْ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ) أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ شَتِيمَةً فَاحِشَةً أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَأَقَامَ شُهُودًا لَا يُحْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَيُحْبَسَ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا عَدَلَتْ الشُّهُودُ كَانَ الْحَبْسُ تَمَامَ مُوجِبِ مَا شَهِدُوا بِهِ، فَلَوْ حُبِسَ قَبْلَهُ لَزِمَ إعْطَاءُ حُكْمِ السَّبَبِ لَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِمُوجِبِهِ وَلَمْ يَعْدِلُوا حُبِسَ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهُ بِالتَّعْدِيلِ كَانَ الْوَاجِبُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْحَبْسِ فَيُحْبَسُ تَعْزِيرًا لِلتُّهْمَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ: (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقول الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ (ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ) مِنْ الِانْزِجَارِ (وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ) لِجَرَيَانِ التَّخْفِيفِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ.
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي حُدُودِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ.
وَذَكَرَ فِي أَشْرِبَةِ الْأَصْلِ يُضْرَبُ التَّعْزِيرَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ بَلْ مَوْضُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْحُدُودِ إذَا وَجَبَ تَبْلِيغُ التَّعْزِيرِ إلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ بِأَنْ أَصَابَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ أَوْ أَخَذَ السَّارِقُ بَعْدَمَا جَمَعَ الْمَتَاعَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَإِذَا بَلَغَ غَايَةَ التَّعْزِيرِ فُرِّقَ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَإِلَّا أَفْسَدَ الْعُضْوَ لِمُوَالَاةِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ الْكَثِيرِ عَلَيْهِ.
وَمَوْضُوعُ مَا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا إذَا عُزِّرَ أَدْنَى التَّعْزِيرِ كَثَلَاثَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِذَا حُدَّ عَدَدًا يَسِيرًا فَالْإِقَامَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تُفْسِدُهُ، وَتَفْرِيقُهَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودُ الِانْزِجَارِ فَيُجْمَعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى شِدَّةِ الضَّرْبِ قُوَّتُهُ لَا جَمْعُهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ كَمَا قِيلَ إذَا صَحَّ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) يَلِي التَّعْزِيرَ فِي الشِّدَّةِ (لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَأَعْظَمُ جِنَايَةٍ حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ) وَهُوَ إتْلَافُ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَكِنْ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَفِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَلِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ) فَيَكُونُ سَبَبِيَّتُهُ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّرْبَ مُتَيَقَّنُ السَّبَبِيَّةِ لِلْحَدِّ لَا مُتَيَقَّنُ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَهُمَا لَا يُوجِبَانِ الْيَقِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: يُفِيدُ أَنَّهُ شَرْعًا بِمَعْنَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يَسْتَيْقِنُ لُزُومَ الْحَدِّ أَوْ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ.
قُلْنَا: كَذَلِكَ الْقَذْفُ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَقَعُ فَرْقٌ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْقَذْفِ لِأَنَّ سَبَبَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِرْيَةً وَبِالْبَيِّنَةِ لَا يُتَيَقَّنُ بِذَلِكَ لِجَوَازِ صِدْقِهِ فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ (وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَلَا يَغْلُظُ) مَرَّةً أُخْرَى (مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ) وَهُوَ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَلِأَنَّ الشُّرْبَ يَنْتَظِمُ الْقَذْفَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَجْتَمِعُ عَلَى الشَّارِبِ حَدُّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ فَيَزْدَادُ الْعَدَدُ نَظَرًا إلَى الْمَظِنَّةِ فَلَا يُغَلَّظُ بِالشِّدَّةِ.
فَأَشَدُّهَا التَّعْزِيرُ وَأَخَفُّهَا حَدُّ الْقَذْفِ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَشَدُّ الضَّرْبِ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ التَّعْزِيرُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْكُلُّ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَيُعَزَّرُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يُضْرَبُ فِي التَّعْزِيرِ قَائِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، وَيُنْزَعُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ وَلَا يُمَدُّ فِي التَّعْزِيرِ.
(وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ.
قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ) وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْمَنُ ثُمَّ فِي قول تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبٍ عَمِلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَفِي قول عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْزِيرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَجَبَ فَالضَّرْبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنِ فِي التَّعْزِيرِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُبَاحًا فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا يَخُصُّ التَّعْزِيرَ وَنَحْنُ نَقول: إنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الِانْزِجَارِ لَهُ فِي التَّعْزِيرِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْفِصَادِ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِعْلِ وَإِلَّا عُوقِبَ، وَالسَّلَامَةُ خَارِجَةٌ عَنْ وُسْعِهِ، إذْ الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِسَبَبِهَا الْقَرِيبِ، وَهُوَ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّخْفِيفِ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِهِ عَنْهُ، أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقَعُ زَاجِرًا وَهُوَ مَا هُوَ مُؤْلِمٌ زَاجِرٌ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ الزَّاجِرِ مَعَ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي الْفِعْلِ وَإِطْلَاقِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ فَصَحَّ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ وَالِاصْطِيَادِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ إذَا عَزَّرَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَمَنْفَعَتُهُ تَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا تَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَيَضْرِبُ ابْنَهُ، وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إذَا أَدَّبَ الصَّبِيَّ فَمَاتَ مِنْهُ يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيِّ، أَمَّا لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ أَوْ أَفْضَاهَا لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعَ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ؛ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَجَبَ ضَمَانَانِ بِمَضْمُونٍ وَاحِدٍ.
تَتِمَّةٌ:
الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ فِيمَا إذَا قِيلَ لَهُ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ أَنْ لَا يُجِيبَهُ، قَالُوا: لَوْ قَالَ لَهُ يَا خَبِيثُ، الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَوْ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي لِيُؤَدِّبَهُ يَجُوزُ، وَلَوْ أَجَابَ مَعَ هَذَا فَقَالَ بَلْ أَنْتَ لَا بَأْسَ، وَإِذَا أَسَاءَ الْعَبْدُ الْأَدَبَ حَلَّ لِمَوْلَاهُ تَأْدِيبُهُ وَكَذَا الزَّوْجَةُ.
وَفِي فَتَاوَى الشَّافِعِيِّ: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُجْلَدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ، وَفِيهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يَخْرُجُ، وَالسَّاحِرُ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَفْعَلُ إنْ تَابَ وَتَبَرَّأَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُقْتَلُ وَكَذَا السَّاحِرَةُ تُقْتَلُ بِرِدَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، لَكِنَّ السَّاحِرَةَ تُقْتَلُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ اُقْتُلُوا السَّاحِرَ وَالسَّاحِرَةَ، زَادَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَإِنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّحَرَ وَيَجْحَدُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقول فَإِنَّ هَذَا السَّاحِرَ يُقْتَلُ إذَا أُخِذَ وَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: رَجُلٌ يَتَّخِذُ لُعْبَةً لِلنَّاسِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ بِتِلْكَ اللُّعْبَةِ فَهَذَا سِحْرٌ وَيُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَيُقْتَلُ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُطْلَقًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ أَثَرًا انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: أَعْنِي عَدَمَ الْحُكْمِ بِارْتِدَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ أَنْ يُضْرَبَ وَيُحْبَسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً.
وَهَلْ تَحِلُّ الْكِتَابَةُ بِمَا عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا يَتَعَاطَى مِنْ الْمَنَاكِيرِ لِأَبِيهِ؟ قَالُوا: إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى ابْنِهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِهِ لَا يَكْتُبُ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ، وَيُعَزَّرُ مَنْ شَهِدَ شُرْبَ الشَّارِبِينَ وَالْمُجْتَمِعُونَ عَلَى شِبْهِ الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبُوا وَمَنْ مَعَهُ رَكْوَةُ خَمْرٍ، وَالْمُفْطِرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَكَذَا الْمُغَنِّي وَالْمُخَنَّثِ وَالنَّائِحَةُ يُعَزَّرُونَ وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً، وَكَذَا الْمُسْلِمُ إذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً، وَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ تَظْهَرَ التَّوْبَةُ، وَكَذَا يُسْجَنُ مَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ السَّرِقَةِ:

السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ، كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ.
وَفِي الْكُبْرَى: أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ.
وَفِي الصُّغْرَى: مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ السَّرِقَةِ):
لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُدُودِ الِانْزِجَارَ عَنْ أَسْبَابِهَا بِسَبَبِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا فِي التَّعْلِيمِ تَرَتُّبُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَفَاسِدِ، فَمَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمَ يُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ أَهَمُّ.
وَأَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ النَّفْسِ وَهُوَ الزِّنَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهِ كَوْنِهِ قَتْلًا مَعْنًى.
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْعَقْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ لِأَنَّهُ كَفَوَاتِ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَدِيمَ الْعَقْلِ لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَعَدِيمِ النَّفْسِ.
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الْعَرْضِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الذَّاتِ يُؤَثِّرُ فِيهَا وَيَلْزَقُ أَمْرًا قَبِيحًا.
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَالْعِرْضِ فَكَانَ آخِرًا فَأَخَّرَهُ.
وَلِلسَّرِقَةِ تَفْسِيرٌ لُغَةً وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَمِعَ مُسْتَخْفِيًا.
وَفِي الشَّرِيعَةِ هِيَ هَذَا أَيْضًا، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَى مَفْهُومِهَا قُيُودٌ فِي إنَاطَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهَا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ أَقَلِّ مِنْ النِّصَابِ خُفْيَةً سَرِقَةٌ شَرْعًا لَكِنْ لَمْ يُعَلِّقْ الشَّرْعُ بِهِ حُكْمَ الْقَاطِعِ فَهِيَ شُرُوطٌ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِذْ قِيلَ السَّرِقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَخْذُ خُفْيَةً مَعَ كَذَا وَكَذَا لَا يَحْسُنُ، بَلْ السَّرِقَةُ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّرْعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مِقْدَارَهَا خُفْيَةً عَمَّنْ هُوَ مُتَصَدٍّ لِلْحِفْظِ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْمَالِ الْمُتَمَوَّلِ لِلْغَيْرِ مِنْ حِرْزٍ بِلَا شُبْهَةٍ، وَتُعَمَّمُ الشُّبْهَةُ فِي التَّأْوِيلِ قِيلَ: فَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ السَّارِقِ وَلَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ ذِي الرَّحِمِ الْكَامِلَةِ، وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِمَا لَا مَرَدَّ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَا قِيلَ هِيَ فِي مَفْهُومِهَا اللُّغَوِيِّ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا لِلْأَفْعَالِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا وَلَوْ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا فِي الشَّرْعِ لِلدُّعَاءِ وَالْأَفْعَالُ شَرْطُ قَبُولِهِ؛ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ الدُّعَاءُ قَطُّ، هَذَا وَسَيَأْتِي فِي السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ خِلَافٌ.
قولهُ: (وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ) يَعْنِي الْخُفْيَةَ (مُرَاعًى فِيهَا إمَّا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً) وَذَلِكَ فِي سَرِقَةِ النَّهَارِ فِي الْمِصْرِ (أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ) وَهِيَ فِي سَرِقَةِ اللَّيْلِ، فَلِذَا إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْلًا خُفْيَةً ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً وَلَوْ بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ مِمَّنْ فِي يَدِهِ قُطِعَ بِهِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْخُفْيَةِ الْأُولَى، وَإِذَا كَابَرَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا وَأَخَذَ مَالَهُ لَا يُقْطَعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ خُفْيَةً، وَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، لَكِنْ يُقْطَعُ إذْ غَالِبُ السَّرِقَاتِ فِي اللَّيْلِ تَصِيرُ مُغَالَبَةً إذْ قَلِيلًا مَا يَخْتَفِي فِي الدُّخُولِ وَالْأَخْذِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ يَعْلَمُ دُخُولَهُ وَاللِّصُّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهَا أَوْ يَعْلَمُهُ اللِّصُّ وَصَاحِبُ الدَّارِ لَا يَعْلَمُ دُخُولَهُ أَوْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ قُطِعَ، وَلَوْ عَلِمَا لَا يَقْطَعُ.
وَلَمَّا كَانَتْ السَّرِقَةُ تَشْمَلُ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْخُفْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصُّغْرَى هِيَ الْخُفْيَةُ عَنْ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالضَّارِبِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُرْتَهِنِ كَانَتْ الْخُفْيَةُ مُعْتَبَرَةً فِي الْكُبْرَى مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ وَمَنَعَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُلْتَزَمِ حِفْظُ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ وَرُكْنُهَا نَفْسُ الْأَخْذِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمِنْهَا تَفْصِيلُ النِّصَابِ فَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ.
لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: «كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا» وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ.
وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ.
وَقولهُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا) لِأَنَّهَا بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُخَالَفَةُ فَرْعُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ.
قولهُ: (وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ) اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْطَعُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُد وَالْخَوَارِجُ وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ فِي الْأَوَّلِ التَّأْوِيلُ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَبِالْبَيْضَةِ الْبَيْضَةَ مِنْ الْحَدِيدِ أَوْ النَّسْخِ، وَلَوْ قِيلَ وَنَسْخُهُ أَيْضًا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ مَا رَوَيْتُمْ.
قُلْنَا: لَا تَارِيخَ؛ بَقِيَ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ، ثُمَّ قَدْ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ يَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ الْآيَةِ وَبِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقِيرَ مُطْلَقًا تَفْتُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلًا كَحَبَّةِ قَمْحٍ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ إطْلَاقُ الْآيَةِ (وَكَذَا لَا يَخْفَى أَخْذُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ) بِأَخْذِهِ (رُكْنُ السَّرِقَةِ) وَهُوَ الْأَخْذُ خُفْيَةً (وَلَا حِكْمَةَ الزَّجْرِ) أَيْضًا (لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ) فَإِنَّ مَا لَا يَغْلِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَاطَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ، فَهَذَا مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ بَعْدَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِمَا لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ بِالْإِجْمَاعِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّارِطُونَ لِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي تَعْيِينِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، لِمَا رُوِيَ مِنْ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوْ اتَّضَعَ، وَذَلِكَ «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ»، وَعُثْمَانُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْت إلَيَّ انْتَهَى.
وَكَوْنُ الْمِجَنِّ بِثَلَاثَةٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ».
أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» (غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقول: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. فَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قولهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَنَّهُ مَا كَانَ إلَّا فِي مِقْدَارِ ثَمَنِهِ لَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ نَفْسَ ثَمَنِهِ فَقُطِعَ بِهِ إذْ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمَسْرُوقُ كَانَ نَفْسَ الْمِجَنِّ فَقُطِعَ بِهِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ (وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ) فَعُرِفَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ حَدِيثَ أَيْمَنَ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ قَالَ: لَمْ تُقْطَعْ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ. وَسَكَتَ عَنْهُ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَكَيْفَ قُلْت: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا؟ فَقَالَ: قَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَخِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: لِأُمِّهِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ بِأَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قَاتَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُجَاهِدٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْمَرَاسِيلِ: وَسَأَلْت أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ وَكَانَ فَقِيهًا قَالَ: تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا. قَالَ أَبِي: هُوَ مُرْسَلٌ، وَأَرَى أَنَّهُ وَالِدُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، وَظَهَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ أَنَّ أَيْمَنَ اسْمٌ لِلصَّحَابِيِّ فَهُوَ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ وَاسْمٌ لِتَابِعِيٍّ آخَرَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي كِتَابِهِ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، رَوَى عَنْ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، ثُمَّ قَالَ أَيْمَنُ مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ.
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّرِقَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَعَنْهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، قَالَ النَّسَائِيّ: مَا أَحْسَبُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً، فَقَدْ جَعَلَهُ اسْمًا لِتَابِعِيَّيْنِ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فَجَعَلَاهُمَا وَاحِدًا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ، رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: سَمِعْت أَبِي يَقول ذَلِكَ وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَيْمَنَ وَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: مَكِّيٌّ ثِقَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَبَشِيُّ مَوْلًى لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، وَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأُمِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً فَقَدْ وَهَمَ، حَدِيثُهُ فِي الْقَطْعِ مُرْسَلٌ، فَهَذَا يُخَالِفُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَأَنَّهُ صَحَابِيٌّ حَيْثُ جَعَلَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَكَذَا فَعَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، أَيْمَنُ لَا صُحْبَةَ لَهُ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ دِينَارٌ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَيْمَنَ رَاوِي قِيمَةِ الْمِجَنِّ هَلْ هُوَ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَلَا إشْكَالَ.
وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا ثِقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ الْإِمَامُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَابْنُ حِبَّانَ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ.
وَالْإِرْسَالُ لَيْسَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ قَادِحًا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَقْوِيمِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَهُوَ ثَلَاثَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ هُنَا لِإِيجَابِ الشَّرْعِ الدَّرْءَ مَا أَمْكَنَ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ يَقْوَى بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ»، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَطَعْت: يَدَ صَاحِبِهِ» وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ عَنْهُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.
وَأَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ فَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
وَهُوَ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ انْتَهَى.
وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكُلَّ مَا رَوَوْهُ إلَّا عَنْ الْقَاسِمِ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ قَطْعُ الْيَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَهَذَا مَوْصُولٌ وَفِي رِوَايَةِ خَلَفِ بْنِ يَاسِينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّمَا كَانَ الْقَطْعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حَرْبٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْفَعُه: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فَهَذَا مَوْصُولٌ مَرْفُوعٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا لَكَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا دَخْلَ لِلْعَقْلِ فِيهَا فَالْمَوْقُوفُ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ.
قولهُ: (وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ) يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قولهُ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا) فَإِذَا أُطْلِقَ بِلَا قَيْدٍ، فَهُوَ وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مَضْرُوبَةً فِي الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُدُورِيِّ (وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِلظَّاهِرِ مِنْ الْحَدِيثِ وَ (رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ) لِأَنَّهَا شَرْطُ الْعُقُوبَةِ، وَشُرُوطُ الْعُقُوبَاتِ يُرَاعَى وُجُودُهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ.
وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْجَوْدَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ زُيُوفًا لَا يُقْطَعُ بِهَا، وَلَوْ تَجَوَّزَ بِهَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوَصْفِ بِنُقْصَانِ الذَّاتِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا إذَا كَانَتْ رَائِجَةً (حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا) أَيْ فِضَّةً غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ صَكًّا (قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ مَصْكُوكَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ) عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِلْإِطْلَاقِ الْمَذْكُورِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
قولهُ: (وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةٍ) يَعْنِي الْمُعْتَبَرُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي يُقْطَعُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُ عَشَرَةٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ (كَمَا قِيلَ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ.
وَتَقَدَّمَ بَحْثُنَا فِيهَا فِي الزَّكَاةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَقَلُّ مَا كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا قَالُوا، وَأَمَّا هُنَا فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ وَزْنُ خَمْسَةٍ، وَصِنْفٌ وَزْنُ سِتَّةٍ. وَصِنْفٌ وَزْنُ عَشَرَةٍ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْقَطْعِ وَزْنُ عَشَرَةٍ، فَهَذَا مُقْتَضَى أَصْلِهِمْ فِي تَرْجِيحِ تَقْدِيرِ الْمِجَنِّ بِعَشَرَةٍ بِأَنَّهُ أَدْرَأُ لِلْحَدِّ، وَمَا كَانَ دَارِئًا كَانَ أَوْلَى.
لَا يُقَالُ: هَذَا إحْدَاثُ قول ثَالِثٍ لِأَنَّا نَقول: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَّرَ نِصَابَ الْقَطْعِ بِعَشْرَةٍ قَدَّرَ الْعَشَرَةَ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِمَّنْ نَقَلَ تَقْدِيرَهُ بِعَشَرَةٍ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَلَمْ يُنْقَلْ تَقْدِيرُهُمَا بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ لُزُومُ الْقول الثَّالِثِ، ثُمَّ هَذَا الْبَحْثُ إلْزَامٌ عَلَى قولهِمْ إنَّ وَزْنَ سَبْعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا إنْ قِيلَ كَالشَّافِعِيَّةِ إنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا.
قولهُ: (وَقولهُ) أَيْ قول الْقُدُورِيِّ (أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا) حَتَّى لَوْ سَرَقَ دِينَارًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا يُقْطَعُ. ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ.
قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنْ الدِّينَارِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِهِ لَا قِيمَةَ الْوَقْتِ، أَيْ يَكُونُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ جِيَادٍ بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ أَوْ أَكْثَرَ سَوَاءٌ كَانَا فِي الْوَقْتِ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَلَا اعْتِبَارَ لِلْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فِيهِ السِّعْرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ قِيمَةِ غَيْرِ الْفِضَّةِ بِعَشَرَةٍ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَطْعِ عَنْ عَشَرَةٍ لَمْ يُقْطَعْ، إلَّا إنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَخَلَهُ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِ الْعَيْنِ، فَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ فِي بَلَدٍ مَا قِيمَتُهُ فِيهَا عَشَرَةٌ فَأُخِذَ فِي أُخْرَى وَقِيمَتُهَا فِيهَا أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ، وَفِي قول الطَّحَاوِيِّ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ فَقَطْ.
وَلَوْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ عَشَرَةِ فِضَّةٍ تُسَاوِي عَشَرَةً مَصْكُوكَةً لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ النَّصَّ.
وَهُوَ قوله: «لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» فِي مَحَلِّ النَّصِّ، وَهُوَ أَنْ يَسْرِقَ وَزْنَ عَشَرَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ دَلَالَةِ الْقَصْدِ إلَى النِّصَابِ الْمَأْخُوذِ، وَعَلَيْهِ ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ: سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دُونَ الْعَشَرَةِ وَعَلَى طَرَفِهِ دِينَارٌ مَشْدُودٌ لَا يُقْطَعُ، وَذَكَرَ مِنْ عَلَامَةِ فَتَاوَى أَئِمَّةِ سَمَرْقَنْدَ: إذَا سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَفِيهِ دَرَاهِمُ مَضْرُوبَةٌ لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ يَقَعُ عَلَى سَرِقَةِ الدَّرَاهِمِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ كِيسًا فِيهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الْكِيسُ يُسَاوِي دِرْهَمًا، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ وَلَوْ لِعَشَرَةِ رِجَالٍ يُقْطَعُ، بِخِلَافِ السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ عَلَى الْخِلَافِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ ظَاهِرًا حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ دِينَارًا فِي الْحِرْزِ وَخَرَجَ لَا يُقْطَعُ، وَلَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَتَغَوَّطَهُ بَلْ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ لِلْحَالِ وَأَنْ يُخْرِجَ النِّصَابَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهُ ثُمَّ دَخَلَ وَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ لَا يُقْطَعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ) بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَلَا يُمْكِنُ التَّنْصِيفُ (فَيَتَكَامَلُ) وَهَذَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ (صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ) وَالرِّقُّ مُنَصِّفٌ فَمَا أَمْكَنَ فِيهِ التَّنْصِيفُ نُصِّفَ عَلَيْهِ وَبِهِ يَحْصُلُ مُوجِبُ الْعُقُوبَةِ، وَمَا لَا كَمُلَ ضَرُورَةً وَإِلَّا أُهْدِرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّ لَهُ حَدَّيْنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، فَانْتَظَمَ النَّصُّ الْحُرَّ وَالْمَرْقُوقَ فِي الْجَلْدِ فَحَدُّهُ عَلَى نِصْفِ حَدِّ الْأَحْرَارِ بِقولهِ تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} ثُمَّ شُرِعَ الْحَدُّ الْآخَرُ وَهُوَ الرَّجْمُ عَلَى الْأَحْرَارِ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْأَرِقَّاءَ.

متن الهداية:
(وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا.
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ.
وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ.
قَالَ: (وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ) وَهُوَ قول أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْإِقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقول وَالْمَعْنَى، أَمَّا الْمَنْقول فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا إخَالُكَ سَرَقْتَ؟ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ» فَلَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بَعْدَ تَكَرُّرِ إقْرَارِهِ: وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ شَهَادَتَيْنِ.
فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِلْحَاقُ الْإِقْرَارِ بِهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا فِي الْعَدَدِ فَيُقَالُ حَدٌّ فَيُعْتَبَرُ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِهِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ نَظِيرُهُ إلْحَاقُ الْإِقْرَارِ فِي حَدِّ الزِّنَا فِي الْعَدَدِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ، فَقَالَ: مَا إخَالُهُ سَرَقَ، فَقَالَ السَّارِقُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ؛ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ، قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: تُبْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: تُبْتُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ» فَقَدْ قَطَعَهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُعَارَضٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَدًّا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عُقُوبَةٌ هَكَذَا ظَهَرَ الْمُوجِبُ مَرَّةً (فَيُكْتَفَى بِهِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ) وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَمَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ لِتَقْلِيلِ التُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْإِقْرَارِ، إذْ لَا يُتَّهَمُ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِمَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا بَالِغًا، عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا صَادِقٌ فَالثَّانِي لَا يُفِيدُ شَيْئًا إذْ لَا يَزْدَادُ صِدْقًا.
وَإِمَّا كَاذِبٌ فَبِالثَّانِي لَا يَصِيرُ صِدْقًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَائِدَتُهُ رَفْعُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْتَفِي بِالتَّكْرَارِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ التَّكْرَارِ فَيُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَالِ رُجُوعُهُ بِوَجْهٍ (لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ) فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وَأَمَّا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ: أَعْنِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مُتَعَدِّدًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَكَيْفَ وَحُكْمُ أَصْلِهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ، فَالْوَاقِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَدُّدِ الشَّهَادَةِ وَتَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً لَا بِالْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ:
قَالَ أَنَا سَارِقُ هَذَا الثَّوْبِ: يَعْنِي بِالْإِضَافَةِ قُطِعَ، وَلَوْ نَوَّنَ الْقَافَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَهُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْحَالِ.
وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ قَالَ: سَرَقْتُ مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ بَلْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يُقْطَعُ فِي الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيَضْمَنُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، هَذَا إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِسَرِقَةِ مِائَةٍ وَأَقَرَّ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَصَحَّ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ الْأُولَى فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الضَّمَانِ.
وَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَةً بَلْ مِائَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا لَوْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ وَانْتَفَى الضَّمَانُ وَالْمِائَةُ الْأُولَى لَا يَدَّعِيهَا الْمُقَرُّ لَهُ، بِخِلَافِ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَتَيْنِ بَلْ مِائَةً لَمْ يُقْطَعْ، وَيَضْمَنُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ وَرَجَعَ عَنْهُمَا فَوَجَبَ الضَّمَانُ وَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ وَلَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِالْمِائَةِ إذْ لَا يَدَّعِيهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمِائَةِ لَا ضَمَانَ.
قولهُ: (وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
قولهُ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ) أَيْ كَيْفَ سَرَقَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ سَرَقَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ لَا يُقْطَعُ مَعَهَا كَأَنْ نَقَبَ الْجِدَارَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ ثُمَّ عَادَ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الْآخَرَ أَوْ نَاوَلَ رَفِيقًا لَهُ عَلَى الْبَابِ فَأَخْرَجَهُ وَيَسْأَلُهُمَا (عَنْ مَاهِيَّتِهَا) فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَالنَّقْصِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ (وَعَنْ زَمَانِهَا) لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ، وَعِنْدَ التَّقَادُمِ إذَا شَهِدُوا يُضَمَّنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ عَلَى مَا مَرَّ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ التَّقَادُمَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُتَّهَمُ فِي تَأْخِيرِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ لِلْمُصَنِّفِ وَلِقَاضِي خَانْ، وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ثُبُوتُ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ حَيْثُ لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُقِرَّ عَنْ الزَّمَانِ لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ وَلَا يَسْأَلُ الْمُقِرَّ عَنْ الْمَكَانِ لَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ بَاقِي الشُّرُوطِ مِنْ الْحِرْزِ وَغَيْرِهِ اتِّفَاقًا.
وَفِي الْكَافِي: وَعَنْ الْمَسْرُوقِ إذْ سَرِقَةُ كُلِّ مَالٍ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَمَا فِي الثَّمَرِ وَالْكُمَّثْرَى، وَقَدْرِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ دُونَ نِصَابٍ، وَعَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَمِنْ الزَّوْجِ.
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَى السَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَخُصُومَةُ الْحَاضِرِ لَا يَسْتَلْزِمُ بَيَانَهُمَا النِّسْبَةَ مِنْ السَّارِقِ وَلَا الدَّعْوَى تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقول سَرَقَ مَالِي وَأَنَا مَوْلَاهُ أَوْ جَدُّهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ، وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَرَفَ الشُّهُودَ بِالْعَدَالَةِ قَطَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ حُبِسَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعَدَّلُوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ، وَالتَّوَثُّقُ بِالتَّكْفِيلِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ وَهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ جَائِزٌ، وَعَلَى قول أَبِي يُوسُفَ يُجْبَرُ، وَلَمْ يَقَعْ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ: أَعْنِي حَبْسَهُ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُزَكَّوْا، وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَسَادِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْفِيلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ حَبْسِهِ بِسَبَبِ مَا لَزِمَهُ مِنْ التُّهْمَةِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلِذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ، بِخِلَافِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يُخْرَجُ.
وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ: لِصٌّ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ وَجَدَهُ رَجُلٌ يَذْهَبُ فِي حَاجَةٍ لَهُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِالسَّرِقَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَتُوبَ لِأَنَّ الْحَبْسَ زَجْرًا لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا عَدَلَ الشَّاهِدَانِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ لَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَالشَّاهِدَانِ غَائِبَانِ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَا، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ، وَهَذَا فِي كُلِّ الْحُدُودِ سِوَى الرَّجْمِ وَيَمْضِي الْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَحْضُرُوا اسْتِحْسَانًا هَكَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ.

متن الهداية:
(قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَإِنْ أَصَابَ أَقَلَّ لَا يُقْطَعُ) وَمَعْلُومٌ تَقْيِيدُ قَطْعِهِمْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا صَبِيٌّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُقْطَعُونَ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ أَحَدُهُمْ نِصَابًا بَعْدَ كَوْنِ تَمَامِ الْمَسْرُوقِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ النَّصِّ.
قُلْنَا: الْقَطْعُ لِكُلِّ سَارِقٍ بِسَرِقَتِهِ نِصَابًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ: يَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ جِنَايَةُ السَّرِقَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ حَتَّى يَكُونَ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.